مواسم الطَرح و الانفصال

15 سبتمبر 2025

لماذا تتساقط أوراق الأشجار في الخريف؟

مقدمة

لماذا تتساقط أوراق الأشجار في الخريف؟ قبل حتى أن أُطلق العنان لبحثي عن إجابة للتساؤل السابق، اعتقدتُ حقاً أني أعلمُها بصورة شبه مكتملة، وأن الأوراق تتساقط في فصل الخريف نتيجة اكتمال نموها وانتهاء دورة حياتها، وبالتالي ضرورة تساقُطها ورحيلها عن أغصان وفروع الأشجار التي تحمِلُها، لتسمح ببدء دورة الحياة للأوراق الجديدة، تلك التي ستحين في موسم الإزهار القادم بعد الشتاء، متمثلاً في فصل الربيع.

إن التمعن في الإجابة السابقة، يُظهر لنا معاني جوهرية كبيرة عِدَّة من معاني الحياة، مُتمثلة في سُنَنِ التَكيُف والتغير والتَبدُل التي سَنّها الخالق المُبدع في الكون، والتي قلَّمَا نجد كائناً حياً يعُوزُها أو لا تجري عليه وتشملُه، وعلى رأسِهم الإنسان.

 

تَجمُد وزوائد غير مُنتِجة

العجيب.. أن الإجابة السابقة.. ومن المؤكد.. تعكس في طياتِها المعنى العميق لما يجري على الأوراق. إلا أنها قد لا تعكس.. وبصورة كُلية.. أهمية هذه العملية على الأشجار نفسها، حتى وإن عكست جزءً بسيطً من هذه الأهمية (متمثلاً في التبديل والتجديد بصورة عامة).

فعند البحث عن إجابة للتساؤل السابق، اتضح أن سقوط أوراق الأشجار لا يُعدَّ شكلاً من أشكال التَكيُف فحسب، بل شكلاً من أشكال الحماية الذاتية التي تقوم بها الأشجار للعيش أطول فترة ممكنة. فنجد أن الأشجار تطرح أوراقها في فصل الخريف خشية التَجمُد ووجود زوائد غير مُنتِجة، والَلذانِ يمكن أن يحدُثا في حال بقيت الأوراق الميتة متصلة بأطراف الأغصان.

ففي فصل الشتاء، من الممكن لخلايا الأوراق الرقيقة أن تتمزق نتيجة تعرُضها لدرجات الحرارة الباردة التي تجعل الماء يتمدد عند التَجمُد، وذلك بدوره يجعلها زوائد غير مُنتِجة. مما يجعل وجودها وبقاءها على أغصان الأشجار غير مُجدي أو نافع لعملية التمثيل الضوئي (عملية عيش وتغذي الأشجار والنباتات وإطلاق الأكسجين في الهواء). أي بلغة أخرى، انقطاع وصول مسببات العيش والحياة لأجزاء الشجرة الأخرى، بالإضافة لبقية الكائنات، تلك.. التي تحيا وتعيش وتُنتِج نتيجة هذه العملية الحيوية الضرورية.

 

موسم الطَرح

إن الإنسان المُتأمل في سُنَنِ الكون على اختلافها وتَنوعِهَا، قَلَّ ما يفوتُه المعنى الشاعري العميق الذي يُصاحب فصل الخريف، في كونِه موسم التجديد والتبديل والتغيير، وضرورة تنبه الإنسان لذلك في نفسه أولاً، وحتى قبل أي أمرٍ خارجيٍ عنه.

دوناً عن ذلك، إن ما سبق ذكرُه عن الحماية الذاتية التي تسعى لها الأشجار، لا يملك إلا أن يجعلنا نتأمل فنتبصَّر لأهمية الطَرح. ذاك الطَرح الذي تقوم به الأشجار للأوراق المتجمدة والزوائد الغير مُنتِجة، فالتفطن المُصاحب للمعنى العميق الذي يظهر في طيات ذلك، والذي لا يمكن إلا ربطه بالإنسان، مُتمثلاً في حاجته الماسة للطَرح والتغيير، وتلك السُنة التي تجري عليه.. جريانها على سائر ما حوله في الكون.

وكأن تساؤل الإنسان الأجدر له بطَرحِه هاهنا.. وفي بداية موسم الخريف.. هو ليس.. ما الذي سيتغير أو سيتجدد في حياتي؟ بل.. ما الزائد.. الجامد.. الغير مُنتِج في حياتي.. وحان موسم طَرحُه وتغييره؟


موسم الانفصال

المثير في التساؤل السابق ليس في إيجاد الإجابة وحسب (من الممكن أنك التقطت إجابتك المنشودة مجرد قراءتك للسؤال)، بل أيضاً في الكيفية التي من الممكن أن يطرَح بها الإنسان كلُ ما لم يَعُد مفيداً.. مُجدِياً أو حتى حيًّ.. كما في حالة أوراق الأشجار.

عند تَبدُل المواسم نَجِد طبيعة التبديل والتجديد تنعكس حتى في أبسطِ الأشياء، من تَغيُر طبيعة الملابس واللقاءات الاجتماعية إلى الأَطعُمّ والمذَاقَات والنكهات المعنيّة بالموسم. بل قد تَجِد نفسك بكل بساطة تتُوق لأكلة أو نكهة معينة مجرد دخول موسمها، رغم أنك فقط وبالأمس القريب أوشكت أن تنسى حتى وجودها. وكأن أحدهم قد ضغط بداخلك زر التَوق لهذه الأكلة على وجه التحديد، في حين تم إيقاف نفس الزر لطعام آخر أو نكهة أخرى قد خرج موسمها.

اللافت أن الأشجار في فصل الخريف تقوم بعملية مشابهة وبصورة عجيبة لما سبق. فالأوراق التي تسقط عن الأشجار لا تُقتلع منها، وإنما تنفصل عنها من خلال عملية دقيقة تُعرف بعملية انفصال الأوراق عن الأشجار. فعندما تبدأ درجات الحرارة بالبرود ويبدأ النهار في القصور نتيجة انتهاء فصل الصيف، يبدأ توقف صبغة الكلوروفيل داخل الأوراق وسرعان ما تنخفض (مسببةً انكشاف ألوان الخريف الجميلة بعد انحسار اللون الأخضر). وهاهنا تبدأ تَشَكُل طبقة جديدة من الخلايا بين ساق الورقة والغصين الذي يحملها على فروع الشجر، تُعرف باسم طبقة الانفصال، والتي تعمل على انقطاع الورقة عن غُصنِها دون ترك جرح مفتوح، وبصورة بطيئة خفيفة ولطيفة.. تكاد لا تُدرَك.

مما سبق، وفيما يشبه فعل الأشجار، نجد أن الإنسان.. وبصورة لا واعية أحياناً.. يقف أو ينقطع عن أمور تَخَلَّف موسمها ودون أي جهد مقصود منه، بغية حاجة داخلية جوهرية فيه، تكاد لا تَسكُن حتى تُحَرِكُه وتَدفَعُه للتبديل والتجديد.

وهاهنا يظهر لنا أنه متى ما عَرَفَ الإنسان ما جَمُد فيه أو زاد.. أو حتى قد أصبح غير مُجدياً أو مُنتِجاً في حياته، كان الانفصال.. بالتوقف والانقطاع عما وجب عليه طَرحُه أدَّعَى ما يمكن أن يفعلُه، وذلك متى ما تَجدَدَّت مواسم الطَرح والانفصال.. سواءً فيه أو فيما حامَّ حولَهُ من الكون، مُستقبِلاً بذلك مواسم التغيير بأجَّود ما يُمكن، تلك المواسم.. التي تستدَّعيها، وبصورة أكبر وأشمل؛ سُنةَ العَيش واستمرار الحَياة.


بقلم: مشاعل النويصر

تحرير: مَجْلِس


مقالات مشابهه

حقيقــة الغضــب

هل الغضب مُشكلة أم ضرورة؟

تَفطُنٌ وحِراك

يتضح أن أدق وصف يُمكن استخدامه لتوسيع فهمنا لمصطلح الثقافة وعملية التثقف هو أنها: عملية تَفطُّن وحِراك.. توثيقي حيّ ومتف...

أيدي تبتكر

الحِرفة حكاية شعوب... تُروى بتقاليد حيّة وتُنسج بذاكرة الأجيال