مقدمة
"ثقافة".. فُلانٌ "مُثقف".. "تَثقَفت" فُلانة..
للوهلة الأولى لا نجدُ أي غرابة في وقع المصطلحات السابقة علينا، وأول ما قد يتبادر إلى أذهاننا هو معناها المعتاد: فلانٌ مُلمٌ بعدةِ علوم ومعارف في حالة "الوصف"، وفُلانة ألمَّت بعدةِ علوم ومعارف في حالة "الفعل". رغم ذلك، استوقفتني دلالةٌ عجيبة تحملتها معاني هذه الكلمة، وذلك بكافة اشتقاقاتها عندما نظرت عليها في المعجم. وعلى اختلاف هذه الاشتقاقات باستخداماتها، وسواءً كان ذلك بصورة مباشرة أو مُبطنة، تلخصت هذه الدلالة في معنيين رئيسين هُما: التَفطُن والحِراك.
هذه الدلالة أكسبت كلمة "ثقافة" بُعداً أعمق في وجهة نظري، فأصبحت في حدّ ذاتها مفهوم ذو نطاق فكري أوسع وأشمل. أي تمكنت من ترقية استخدامها المعتاد كتعبير ووصف لغوي مجرد لشيءٍ ما أو شخصٍ ما، إلى قيمة ذات معنى ناطق، يتجود ويُجّوِد كافة ما نُسِب إليه، وليس ذلك بالمعنى الأصلي للكلمة فقط، وإنما أيضاً بالحيوية والحياة في أحد أبهى حُلَلِها وتجلياتِها.
ثقافةُ بلد
فلو نظرنا إلى ثقافة بلدٍ ما سنجد أنها مجموعة من المكونات التي تَصبِغ هذا البلد وشعبه بصِبغة خاصة يتفرد بها عن كافة البلدان الأخرى. بل أحياناً قد تتميز ثقافةُ بلدٍ ما بمكون واحد فقط، مختلف عن تلك البلدان المجاورة، والتي قد تتشابه معه وتتقاطع في بعض المكونات المُكونة لثقافتِها.
تختلف هذه المكونات بين مكونات مادية (المأكل، الملبس، المسكن...)، فكرية (الفن، العلوم، الأدب...)، اجتماعية (العادات، الأعراف، التعاملات...)، إلى غيرِها من المكونات التي تتنوع وتتشعب باختلاف جغرافية البلدان وشعوبها. بل كذلك، وفي معظم الأحيان، نجد أن كثير من هذه المكونات تتأثر وتتجدد على مر السنين، بعدد من العوامل المختلفة، والتي تطرأ على البلد نتيجة التغييرات التاريخية والمناخية والسياسية.
فلو أخذنا على سبيل المثال ثقافة المملكة العربية السعودية، لوجدنا أنها ثقافة غنية جداً بالمكونات الثقافية المختلفة والمتشعبة، وليس فقط بأنواعها، بل حتى بين مناطقها الإدارية الثلاثة عشرة. فتَميُز مساكن منطقة عسير بفن القَطّ العسيري، والرواشين والمشربيات الحجازية التي تألقت بها بيوت جدة التاريخية، وحتى الفتحات المثلثية أو المستطيلة (الفُرجات) والتسورات (الشرفات) التي تميزت بها البيوت النجدية القديمة، جميعها تَقُصّ حكايا أهلها وناسها اللذين سكنُوها وعَمرُوها، وفي تلك التفاصيل المعمارية الصغيرة والبسيطة. بل نجد هذه التفاصيل تُحاكي أيضاً جغرافية الأرض التي قامت عليها وتحكي طبيعتها وما طرأ عليها، ومن مجرد معرفتنا للمواد المستخدمة في بناءِها أيضاً. هذا لو أردنا فقط أن نأخذ، وعلى عُجالة؛ مُكون ثقافي واحد فقط (المسكن)، وذلك على سبيل المثال لا الحصر، حتى نفهم عمق هذا المفهوم (ثقافة).
تَفطُن وحِراك
إن الإلمام والمعرفة بهذه المكونات جزء لا يتجزأ من عملية تَكوُن ثقافة البلد وتشكُلها. فهيَّ تبدأ بإدراك ما يتميز به البلد، ويتفرد به حقيقةً عما جاوره من بلدان، وذلك من سمات جغرافية وتاريخية وبشرية. وهاهنا يكون التَفطُن، الشق الأول في عملية التثقف، والقيمة التي نسعى لتقصِّيها خلف معنى كلمة "ثقافة".
ومتى ما حدث ذلك التَفطُن، كان لابد من أن يتبعه الحِراك (الشق الثاني في عملية التثقف)، أي عملية المعاينة والتسجيل والتوثيق لتلك السمات المتفردة والمميزة. وهذا الحِراك، لتشكيل ورسم معالم ثقافة البلد؛ هو عملية حيوية تفاعلية ضخمة، عادةً ما تقوم بين الوزارات المعنية وناس البلد الأعَّرف بسماتِها. ليتم بثُّه وتوثيقه لاحقاً كهوية أصيلة حية يتميز بها البلد.
ثقافة حية
مما سبق تظهر عملية تَشكُل ثقافة بلدٍ ما كعملية منتهية، تبدأ من التَفطُّن وتنتهي بالحِراك، والذي عادةً ما يتحدد ويحدُث في أُطر زمانية ومكانية معينة. إن الثبات المصاحب لنهاية عملية الحِراك، وما بعدها من تحديد ثقافة البلد في مكونات معينة، قد يظهر كتوثيق جامد محدد ومنتهي، لا يٌعطي كلمة "ثقافة" القيمة التي أشرنا لها في مطلع المقال.
رغُم ذلك، مجرد تَفطُنُنا إلى أن المكونات نفسها التي تم توثيقها، هي مكونات تاريخية جغرافية وبشرية، متغيرة ومتجددة، يجعلنا نُدرك المعنى الحيوي الأوسع المطلوب. فهي مكونات تتجدد وتتصبغ بناس البلد، ومدى حيويتهم وتفاعلهم مع هذه المكونات على مر الوقت. بل تتطور كذلك بمدى تَفطُّنِهم لكل ما يتجدد ويتميز ويتفرد من هذه المكونات، ومن ثَمًّ حِراكِهم بما يستحثُّه ذلك. ليتبع ما سبق، تَفطُّن وحِراك أصحاب القرار في تشكيل ثقافة البلد وما يلي ذلك.
ها هنا، يتضح أن أدق وصف يُمكن استخدامه لتوسيع فهمنا لمصطلح الثقافة وعملية التثقف هو أنها: عملية تَفطُّن وحِراك.. توثيقي حيّ ومتفاعل.. مغزاه تشكيل ثقافة ذات قيمة.. أدعى ما يمكن أن نقوله عنها أنها.. ثقافة حية.
كتابة: أ. مشاعل النويصر
تحرير: مَجْلِس